نظرتُ إليها لقد نهضتْ بخفة ونشاط وتركتِ المكان ... هل ستغادر ...؟!!! إنّ سبحتها موجودة على الأرض بجوار القرآن ....
أيقنت أنها ستعود .... وفي تلك اللحظة أقبلت طفلة صغيرة تحبو وأمسكتْ بالقرآن ... ولكن الأم أخذته منها وأعادته إلى
مكانه مقفلا ... عدت أقرأ القرآن ... وحين عادت تلك السيدة العجوز إلى مكانها بدأت تقـلّب القرآن في حيرة ... وتتلفت إلى من
حولها وكأنها تريد شيئـًا ...
التفتُ إليها وهي تقلب صفحات القرآن بيديها المرتعشتين كنت أرى في عينيها الحيرة والغضب ...وكمن وقع في مشكلة ...
ثم التفتت إلي وأشارت لي بيدها أن آتي ... وحين أتيت طلبت مني أن أفتح القرآن على سورة الفجر ... ابتسمتُ وفعلت ما طلبته
مني .. ولما أردت الذهاب قالت لي : شكرا جزاااك الله خيرا ... أهذه سورة الفجر ...؟!!
قلت لها : نعم هذه هي ... نظرتْ إلى الصفحة وهي تقول : متأكدة ...؟!! قلت بتعجب : نعم انظري إلى الآيات ...!!!
ابتسمت وقالت : يا ابنتي أنا لا أعرف القراءة ... ولا أعرف الحروف التي أمامي ... قلت لها : لا تعرفين .... ؟!!
كنت مذهولة ... لا تعرف ...!!! كيف لا تعرف ..؟!! إنها تمسك بالقرآن وتقرأ فيه ... وتقلبه بين يديها
ومنذ لحظات كانت غاضبة وهي تفتحه وتبحث عن السورة التي كانت تقرؤها ...!!!!!!!!
نظرت لي العجوز وكأنها عرفت ما يدور في نفسي وقالت لي : " نعم لا أعرف القراءة ... ومع ذلك أمسك بالقرآن وأقرأ
القرآن غيبا حاضرًا ... " وضحكت وهي تقول : أشعر براحة وأنا أمسك بالقرآن
وأقلبه بين يدي ... أريد أن اغنم هذه اللحظات .... إيييه يا ابنتي ... إنه هبة من الله ...
لم ندرك قيمتها إلا بعد فني شبابنا ... "
ثمّ قالت مبررة : "لقد مررنا بزمن لا نستطيع الجلوس فيه بسبب العمل المضني ...
لم يكن عندنا وقت لنتعلم أو نقرأ ... كان العمل هو أهم من كلّ شيء في هذه
الدنيا حتى من أنفسنا ... زمن صعب ... ولكن بالرغم من ذلك ... كنا نحفظ غيبا مع أبنائنا بعض
السور البسيطة ... وها نحن نكمل مع أحفادنا ... والآن فرصة ... القرآن بين يدي ...
إنني أجلس أغلب وقتي ليس لدي ما أقوم به .... فكيف لا أقلبه بين يدي وفي
أحضاني ....هنيئـًا لكم يا أبناء اليوم ... كنت أتمنى أن أعرف القراءة حتى أقرأ السور الطوال وأستمتع بها .... "
تنهدت وهي تمسح شيئا يلمع عند عينيها وقالت مستطردة : وأفتح القرآن متى شئت دون أن أحتاج لأحــد ... ولكن ...
الحمد لله على كل حال ... الحمد لله .... شكرا لك ..." أنهت حديثها معي وكأنها لا تريد أن تكمل ... كان الألم في كلماتها مؤثرًا للغاية ...
عدت إلى مكاني وأنا متعجبة ... بل أتألم وأتحسر ... على كلّ من يعرف القراءة ولا يعيش لحظات الشغف
التي تعيشها هذه العجوز مع القرآن ... هذا النور العظيم الذي بين أيدينا ...
ولم نعرف قدره ولا حقه .. شعرت بأنّ تلك السيدة تعيش بروح متفردة ...روح مختلفة ...
وحق لها أن تكون كذلك أليست تهفو إلى خير الكلام ... ؟ أليست تتطلع إلى سماعه وإلى فتحه واحتضانه ..؟
ولا يقول قائل :إنها كبيرة في السن وأن هذا ما يناسبها ... لااا فكثير من العجائز
التي تعيش بروح متهالكة كجسدها ... تلك العجوز جعلتني أشعر بالحرمان ... جعلتني أتحسر
على نفسي وعلى كثير من شباب اليوم الذين شاخت أرواحهم بالرغم من أجسادهم الشابة ...
روح لفها التصحر و الجفاف ... روح خاوية .... بالرغم من أنه لديها كل ما تريد من رفاهية ....
يا لهذا اللقاء الذي لم يستمر سوى بضع دقائق إلا أنه أخذني وأفكاري
لعالم الأرواح التي لا تشيخ ... أرواح تتهافت على كلمات الله ... وتسعى جاهدة
لأن تقرأ آي من الذكر الكريم ... أرواح تعيش وتزهر بذكر الله ...
حتمـًا إنّ أرواحـا ترقى
لهذا المستوى من التألق ... لهي أرواح ستظل شبابـًا للأبـــد ...
حاولت أن أداري دمعة ولكنها أبت إلا النزول .... لتستقرّ على القرآن الذي بين يدي ....
يااارب اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا ... ولا تجعلنا من المحرومين ...