محمد النغيمش

قال لي المفكر الإداري الشهير توم بيترز إن أحد أغرب المواقف التي حدثت له طوال رحلاته الجوية حول العالم، والتي «بلغت 9 آلاف رحلة»، ذلك الموقف البسيط الذي حدث على متن الطيران السنغافوري حينما «أتتني مضيفة حسناء في مقصورة رجال الأعمال ثم حدقت في عيني وابتسمت، ثم قالت: (سيدي الكريم، هل تود أن أنظف لك نظارتك؟)»، وهنا كانت صدمته كبيرة إذ إن أحدا لم يسأله هذا السؤال من قبل، ولم يستطع حتى اليوم نسيان هذا الموقف العفوي الذي حفر اسم خطوط الطيران والمضيفة في ذهنه حتى وهو في السبعينات من عمره!

كان هذا جزءا من حوار مطول أجريته معه عن المهارات الشخصية على هامش ورشة عمل دعاني إليها معهد الدراسات المصرفية في الكويت وحضرها كبار القياديين في الشركات الخاصة والجهات الرسمية، التي تحدث فيها عن خلاصة خبرته في أسس بناء النجاح الشخصي والمؤسسي. وأخبرني بيترز أن «المهارات الشخصية (Soft skills) في عصرنا الراهن صارت أكثر أهمية من المهارات الفنية»، وحينما سألته: «بحكم تقديمك لأكثر من 3 آلاف محاضرة في 67 دولة، وبما أنك التقيت كبار القادة في كل مكان، هل يمكن أن تحدد لي ما هي أهم مهارة يجب أن يتحلى بها كل شخص سواء كان مسؤولا أو شخصا عاديا؟». ففكر مليا ثم قال: «هي مهارة الإنصات، لأن من دون إتقانها يتخبط الناس وتكثر أخطاؤهم، وهي فوق هذا مهارة نفهم من خلالها الناس ونكسبهم»، وفق قوله.

وكلام بيترز لم يجانب الصواب، فكل المهارات الشخصية التي نتحدث عنها في هذا العمود وغيره صار طلاب الجامعات العالمية يجدونها مضافة كفصول في كتب الإدارة الحديثة، ولا أذكر أن كتب الإدارة القديمة كانت تدرسنا بإسهاب مهارات من هذا النوع.

وبدأت الشركات فعليا تهتم بهذا النوع من المهارات، ومنها شركة «ديزني لاند» التي قال لي إنها تنفق على موظفي الاستقبال والواقفين في المواقف أكثر من غيرهم لقناعتهم أن بشاشة الاستقبال وحسن التعامل مع العميل هما أقوى انطباع يدوم في ذهنه. وهو ما يذكرني بفنادق «ريتز» التي لاحظت أنني كلما سألت موظفا عن مكان ما أخذني بنفسه إليه، حتى سألت أحدهم: «ما حكايتكم؟»، فقال: «نحن لدينا تعليمات ليست لها علاقة بأصول الفندقة المتعارف عليها، وهي ضرورة إيصال النزيل إلى المكان الذي يريده بأنفسنا»!

ونبه بيترز إلى أن مشكلة ما يجري في العالم هو غياب القدوة الحسنة، حيث إن المدير والقائد ينظران شفهيا في المهارات الشخصية أمام موظفيهما وهما أول من لا يعيرها اهتماما يذكر، فيقلدهما العاملون معهما فتتفشى ثقافة اللامبالاة وغياب جودة الخدمة. وهذا ما يفسر سبب إرسال الكثير من البنوك والشركات لمخبرين أو عملاء خفيين (mystery shoppers) لتقييم أداء موظفيهم في المطعم أو المتجر أو المقهى لتقويم أدائهم. ولحسن الحظ بدأت ألحظ وأنا أتصفح كتيبات الدورات في القطاع العام في بلدي الكويت وغيرها الكثير من دورات المهارات الشخصية، وهو ما لم يكن الأمر عليه في السابق، حيث كانت الدورات تميل نحو كفة الدورات الفنية، وكذلك الحال في وسائل الإعلام العربية المرئية والمسموعة والمطبوعة، وهو ما ينم عن بداية وعي حقيقي في الوطن العربي بأهمية أن يطور الإنسان نفسه ويجعل يومه أفضل من أمسه، وهذا هو سر تقدم الشعوب المتحضرة.

الشرق الأوسط