"أكرموا المعلم.. ثم حاسبوه" يا وزارة التربية
الكادر الوظيفي للمعلم، عندما صدر قبل أكثر من 35 عاما، أعطاه منزلة ومكانة اجتماعية، ولكن بعد كل تلك السنوات، وارتفاع تكاليف المعيشة، لم تعد وظيفة المعلم تميزه اجتماعيا



"اطعن معلما.. وخذ إجازة شهرين"، تداول الناس هذه العبارة خلال الأسبوع الفارط في "واتس آب" بشكل عريض، فضلا عن مواقع التواصل الاجتماعي في "تويتر" و"فيسبوك"، وقد أتت تهكما على قرار أخير لوزارة التربية، بإيقاف أي طالب يعتدي على معلمه بالسكين، شهرين كاملين.
تلبّس كثير من المعلمين والمعلمات ـ وهم يربون على أكثر من نصف مليون ـ الإحباط من الصورة التي انتهى إليها مربي الأجيال، وقد بات مسخرة لرسامي الكاريكاتير، والممثلين الهزليين، بل وصل الأمر بهم، أن ضجوا بعد مقتل زميلنا محمد البرناوي - يرحمه الله - وهم يرددون في منتدياتهم الإلكترونية: "بعد أن كنا في حقب سابقة نقول: من يحمي الطالب من المعلم، بتنا اليوم نردد: من يحمي المعلم من الطالب؟".
هموم التعليم كثيرة، وإشكالاتها متعددة، بيد أنني رجل من الميدان التربوي، أجزم بأن أهم ثلاثة إشكالات رئيسة لوزارة التربية، تتمثل في: المعلم، والبيئة المدرسية، والمنزل. وما سواها فروع وإشكالات ثانوية، ولو استطعنا البدء بحل هذه المشكلات، لاختفت كثير من التي تليها.
سأبدأ بالأهم، وهو المعلم، الذي ما فتئ سمو وزير التربية وقيادات تلك الوزارة بالتأكيد على أنه الركيزة الأولى في العملية التربوية، بل إن الأمير فيصل بن عبدالله، لطالما ردّد في تصريحات عدة: "المعلم ثم المعلم ثم المعلم"، بيد أن المعلمين في الميدان لم يشعروا كثيرا بهذا الاهتمام، وكل الأمور التي تقدم لهم، ستظل قاصرة على أن تعيد لكثير منهم الحيوية والدافعية للعمل، في ظل جو من الاحباط السائد، خاصة للمخضرمين منهم.
أطرح هنا بين يدي سمو الوزير فيصل بن عبدالله، وقيادات التربية، وصفة علاج أزعم بفعاليتها، تتمثل في الشعار: "أكرموا المعلم ثم حاسبوه"، كيف بالله لهذا المعلم الذي وصل للمرتبة الـ24 وقد توقفت العلاوات له، أن يقدم ما تأملونه منه، ويترجم لكم خططكم التي تسهرون عليها، وهؤلاء بعشرات الآلاف في الميدان التربوي، وهناك المعلمون الذين ما يزالون على بند الـ105، وهم بالآلاف أيضا، فضلا عن المعلمات البديلات، اللاتي لم يترسمن، وعند مقارنة رواتب هاتين الشريحتين بزملائهم السابقين يظهر الفرق واضحا.
الكادر الوظيفي للمعلم، عندما صدر قبل أكثر من 35 عاما، أعطى للمعلم منزلة ومكانة اجتماعية، ولكن بعد كل تلك السنوات، وغول الغلاء الذي ضرب المجتمع، مع ارتفاع تكاليف المعيشة، لم تعد وظيفة المعلم تميزه اجتماعيا، ويتوسم هؤلاء المعلمون والمعلمات في وزيرهم، وقد بوأه الله مكانة وقربا من والد الجميع خادم الحرمين الشريفين، وهو الأبّ الحاني والمدرك لدور ومكانة المعلم، أن يتشفع لهم؛ ليكرموا ببعض المزايا كبدلات السكن والتأمين الصحي، وسموه قادر على أن يضع له بصمة تاريخية تلهج ألسنة المعلمين والأجيال الآتية بالدعاء والثناء عليه.
من أكبر الأخطاء التي سترتكبها الوزارة، إن أكرم الله معلميها بتلك المزايا، أن تهبها لكل المعلمين في الميدان، دون أن تربطها بالأداء داخل الفصل والميدان التربوي، فالشعار الآنف: "أكرموا المعلم ثم حاسبوه"، يتمثل جزؤه الثاني هنا، عبر ما سيقدمه المعلم للطالب، ولا يمكن قياس ذلك، إلا باختبارات خارجية، تكون مقياسا صادقا لعطاء المعلم، ووقتها سترون بأم أعينكم كيف يتفانى المعلم في بذل جهد مضاعف، دون تعاميم ولا تلويح بقرارات ولا عصا؛ كي تكون مخرجاته على أعلى قدر، فعلاوته مرتبطة بأدائه.
وقتما تكون وظيفة "معلم" جاذبة، بمميزاتها الوظيفية والمالية، سيتسابق لها أبرز وأرفع الخريجين، وتستطيع الوزارة حينها، بانتقاء من تريد، لا أن تكون بما نراه الآن، جزءا من حل مشكلة البطالة في البلد، نقبل المؤهل وغير المؤهل، وسنكون حينها مثل فنلندا، وهي الأولى بالعالم باختبارات التنافسية، ولا تقبل في وظيفة "معلم" إلا حاملي شهادات الماجستير، ولا تقبل إلا واحدا من كل عشرة منهم.
نأتي للإشكالية الكبرى الثانية، المتمثلة في البيئة المدرسية، وتحديدا في المباني المدرسية، التي وعد الوزير بالانتهاء منها ولم يف، فالمشكلة ما تزال "ناشبة" في حلق التربويين، فـ6294 مدرسة مستأجرة ـ بحسب الاقتصادية 20 شوال الماضي ـ منها 3000 وأكثر، ليست لها أراض أصلا، ليست بالهينة، وهي ستشغل الوزارة عن أداء مهماتها الأصلية في التركيز على عملية التربية، والمعلمون في مثل هذه المدارس، لم يقصروا بوضع صور الفصول البائسة على الإنترنت، فبعض الفصول التي يدرس بها الطلاب عبارة عن مطابخ ودورات مياه سابقة، أعيد بناؤها كفصول يدرس بها فلذات الأكباد.
الحل الناجع لهذه المشكلة، هو استصدار قرار، بأن تتولى وزارة الشؤون البلدية والقروية، إعادة بناء هذه المدارس وتعويض أصحابها، بمثل ما فعلنا مع توسعة الحرمين المكي والنبوي، وتسلم لوزارة التربية في غضون ثلاث سنوات، ولتنصرف التربية وقياداتها لواجبهم الأهم، فهم في النهاية ليسوا مقاولين، ولا "شريطية عقار"، وأحذر من أن تتجه الوزارة ـ بما سمعنا ـ لشركة تطوير، فذلك مضيعة للوقت؛ لأن الشركة ستذهب لـ"الشحاذة" من وزارة المالية، التي ستدخل معها في متاهة بيرواقرطية، وتمضى السنون تلو السنون، ولا نقبض ونبني سوى الهواء.
أما بالنسبة للمعضلة الثالثة، وهي المنزل أو الأسرة، فلا يملّ المجتمع من الهجوم على التربية، رغم أن ربّ الأسرة جزء أصيل من مشكلة التربية، والأنظمة التعليمية الناجحة على مستوى العالم، تحمّل الأسرة 50% من مهام التربية والتعليم، والحلّ برأيي أن تبادر الوزارة إلى استراتيجية وطنية كبرى على مستوى المملكة، للتعريف بدور الأسرة في العملية التربوية، مستعينة بالإعلام والمفكرين والنخب الوطنية.
هذه بعض اجتهادات رجل في عمق الميدان التربوي، جازما أن أية استراتيجيات أو خطط أو حلول دون إصلاح وضع المعلم هراء.
"أكرموا المعلم ثم حاسبوه" وصفة علاج التعليم.


عبد العزيز محمد قاسم
صحيفة الوطن
24/ 11/ 1434