إصلاح وضع المعلم طريقنا نحو "العالم الأول"
عندما تستعيد مهنة التعليم بريقها الأول، وتعود من المهن الراقية التي يتسابق عليها الخريجون المميزون، سيتفانى المعلم للاحتفاظ بوظيفته، بل ويطمح لأن يتسنم درجات الحوافز الوظيفية عبر أداء مهني محترف



تفاءلت بسمو الأمير خالد الفيصل وزيرا للتربية، لأن هذه الوزارة الكبيرة، تحتاج رجلا حاسما، يحلحل مداميك صدئة في نظامها البيروقراطي، ويبثها الكثير من الحراك والحيوية التي تحتاجها، وقد باتت بطيئة، محملة بتركة ثقيلة من المشاكل والملفات المعلقة، وفساد مالي وإداري فاح عطنه في الإعلام.
أُمطر سموه الزملاء والخبراء والمتخصصون في ميدان التربية والتعليم، بمئات الوصايا التي يعتقد كل واحد منها أنها الأهم، والبوابة التي ستفتح على إصلاح وضع التعليم، في وزارة عتيدة، تتكدس في أضابيرها آلاف الملفات المتوقفة، وبالتأكيد يحتاج وزيرنا لعشرات ورش العمل من متخصصين متنوعين.
أنا في صميم الميدان التربوي، وبرأيي أن معظم الوزراء الذين مروا على وزارة التربية فشلوا في بلورة كامل رؤاهم واستراتيجياتهم وخططهم في أرض الواقع، لأنهم بدؤوا من الأعلى للأسفل، فكانوا كالفلاسفة المنظرين ليوتوبيا بيئة تربوية حالمة، ونسوا الأهم، وهو المعلم، الركيزة الأساس في العملية التربوية.
كم أتمنى على سمو الأمير خالد أن يبدأ بإصلاح حال المعلم أولا، وأن يجعلها مهمته الأولى والأهم، عبر الوصفة التي طالما كتبناها، وبثثناها للقيادات التربوية الراحلة، ولكنها تبددت في زحمة انشغالهم بخططهم المتعددة، ورحلوا ولم يحققوا شيئا ذا بال. الوصفة التي أقدمها، متمثلة في جملة بسيطة، هي: "أكرم المعلم ثم حاسبه".
عندما تستعيد مهنة التعليم بريقها المجتمعي الأول، وتعود من المهن الراقية التي يتسابق عليها الخريجون من ذوي المعدلات العالية، وتكون محط أنظار كل المتخرجين المميزين، كما في فنلندا التي لا تقبل إلا من معه شهادة الماجستير، للإغراءات المالية والوظيفية التي لا تجلب إلا النبهاء والأذكياء والمتفوقين. وعندما يشعر المعلم – كما كان قبل أربعين عاما - بقيمته المجتمعية، بما ننظر للطبيب اليوم وأستاذ الجامعة، ويدلّ بوظيفته كمعلم للأجيال بحق، وقد تحققت له تلك المكانة بفضل المزايا الوظيفية التي يتحصل عليها؛ عندها سيتفانى للاحتفاظ بوظيفته ودرجته التي عليها، بل ويطمح لأن يتسنم درجات الحوافز الوظيفية عبر أداء مهني محترف.
وقتها سيترجم هذا المعلم كل توصيات واستراتيجيات الوزارة بشكل دقيق، لأن هناك في مقابل هذه المزايا التي يتحصل عليها؛ محاسبة دقيقة للمخرجات التي يقدمها، عبر هذا الطالب الذي ائتمنه الوطن عليه، وهو إن قصر وقتها، فسيفقد وظيفته ومكانته، فسنجده حينها قد بذل كل الوقت والجهد وتفانى في العمل، كي يتخرج طلابه جميعا، وهم في درجة عالية من الفهم والتحصيل.
معظم المعلمين اليوم غير راضين عن مهنتهم، ويسربلهم إحباط عام في مستويات عدة، ويشعر المعلم اليوم أن يده كفّت، وهيبته التي كان عليها الرعيل الأول تبددت، بل وبات مسخرة للطلبة الذين يدرّسهم، وربما كانت حادثة "طبرجل" ـ الخميس الماضي ـ مثالا حيا لما آل له وضع المعلم.
مثال بسيط لمئات الحوادث التي تقع في ميدان التربية، فطلاب متوسطة بمدينة "طبرجل"، يقومون بإغلاق بوابة المدرسة على المدير والمعلمين، ويتجمهرون، ولا يفرقهم إلا رجال الشرطة.
تخيلوا في غدهم عندما يحضرون المدرسة، كيف تكون نظرات هؤلاء الطلاب تجاه معلميهم، وهل ـ بالله عليكم ـ سيتلقون من هؤلاء المعلمين العلوم والأخلاق والأدب في المقررات التي يدرسون، وصورة المعلم لديهم مطموسة بالكامل، بل هو ذكرٌ يستطيبون الهزء به والتهكم عليه.
سامح الله من أهرق كرامة المعلم وصورته في المجتمع، وغفر الله لكل من أراد أن يحمي الطلاب منه، فإذا به ينمذجه بصورة شائهة، يتسابق رسامو الكاركتير والمسلسلات الهزلية للسخرية منه، وسمعنا عن آلاف النماذج لجرأة وتعدي الطلبة على معلميهم، دون أن يستطيع ذلك المعلم المكمود الرد، لمعرفته أن مديره أو قيادات التعليم لن تحميه، فيكبت حسرته وألمه، ويرضى بالصلح الذي يطالبه المدير أو الوكيل "للملمة" القضية، كي تكون صورة المدرسة زاهية.
كم أتمنى على الأمير خالد الفيصل أن يعطي الوزارة هيبته، ويدعم المعلم في تعزيز مكانته المجتمعية، فإن أصلح وضع هذا الذي سيترجم له أحلامه بالوصول لـ"العالم الأول"، فإن كل خططه وفريق الخبراء معه، ستنجز وتتحقق في أرض الواقع.
إن لم نكرم ونعزز مكانة معلم الأجيال، فلسنا أمة جديرة بالعالم الأول.


عبدالعزيز قاسم
صحيفة الوطن..