خبز أمي..



رغم سطوة السنين وقسوتها، إلا أنها لم تغيّبْ تفاصيل حياتنا.. فمازالت رائحة خبز أمي عالقة بأذهاننا.. نروي حكاياها لمن تأخر به القدر عن مواكبة تلك الأيام..
لم يكن يُملأ به فراغ الجوف فحسب، بل كان همزة وصل تربط الجميع تحت سقف من الود والحب والتآلف..
كانت الكسرة من خبزها تسكب مقدارا من القناعة في نفوسنا، وتكمل نقصها بترتيل حكايات تملأ نهارنا الشتويّ دفئا وشبعا لا نشعر بعده بالفاقة والجوع، حينما تسرد لنا إحدى قصصهم في سني القحط التي أخذت منهم قواهم الجسدية، وأبدلتها بأخرى روحية قوية شديدة البأس والتحمل لضنك السنين ووعثاء الأيام.. خبز أمي كان يسير بي إلى طرقات شتى من الخير والبركات التي تفضي إلى التوادّ والتراحم.. لم يكن يحضر على مائدتنا حتى تسبق بشيء منه إلى أفواه كل من تصله رائحته.. حتى رأينا ذلك العمل منها فرضاً يشبه تقديسها للصلاة في وقتها.. كانت العصافير تهبط في مدارج بيتنا خماصاً وتطير بطاناً وقد شبعت من فتات خبز أمي، بل إنها تغادر مغردة وكأنها ترسل عبارات شكر لصاحبة الخبز.. خبز أمي حكايات تشبه طعم الخبز في أفواه الفقراء..
عندما يأخذني الحنين إليه أستعيد تلك الذكريات الساكنة خلف أروقة من الحنين والشغف للهجرة إلى تلك المعاني الجميلة التي تحملها لذته، وتميز طعمه عما سواه..
كم حملت ذاكرتي له من مفارقات غاية في الجمال بدءا من طفولتي وأنا أتزود بكسرة منه في غدوّي ورواحي، وحتى تلك اللحظة التي بدأت أحاول أنْ أصنع ما يشبه خبز أمي شكلاً وأنا أعلم يقينا أنه لن يحمل شيئا من روحه التي أحلم بها.. لكنه صنع لي دروساً كأنها أمي من تلقنني إياها. فمنها: تعلمت أن المرء لا يقف أمام اللهب فقط من أجل لقمة سائغة فحسب، بل لما هو أكثر..
علمتني ربما أن أصنع خبزا وأعتني به، ليس من أجل نفسي بل من أجل أن أصنع به حياة في مكان آخر.. أرسم جمالا على شفاه غابت عنها البسمة، وأمسح دمعة من عين أبكاها العوز.
خبز أمي علمني الكثير والكثير..
علمني أن تلك الحياة بما فيها من الترابط والقيم دفنت تحت شجرة الحضارة التي لا أُكل لها تؤتيه.. بل ملأت حياتنا بفروع لم نعد قادرين على قصها بعد أن تدلت منها ثمار القطيعة والشتات وتفريق من كانوا لا يفترقون قبل أن يتفقوا على موعد يجمعهم.
خبز أمي حكايات سمت بأنفسنا حتى درجة تقديس معنى الحب والأخوة والتواصل، فلم يكن يمر يوم إلا ونلقن درسا أن من تذوق خبز أمي هو أخي..
كيف كبرت هذه الأخوة حتى زرعوا بيننا وبينها ستارا أسود لا معنى له؟



كفى عسيري
صحيفة الوطن