هل أنا حرامي ؟
للكاتب / مؤمن غالي
---------------------------------------------
يحكى أن طبيباً سودانياً.. كان قد سافر إلى «دبلن» لامتحان الجزء الأول من تخصصه الطبي.. وكانت رسوم... ذاك الامتحان هي 309 .جنيهاً استرلينياً.. ولأن الطبيب لم يجد «فكة» فقد دفع 310 جنيهاً..

وفجأة جاءه خطاب من الكلية في السودان.. بعد أن عاد من «إيرلندا» وفي طي الخطاب شيك بواحد جنيه.. مع الإيضاح للطبيب.. أنه كان قد دفع للكلية 310 جنيهاً.. مع أن الرسوم.. هي 309 جنيهاً

والحق.. فقد أعادتني هذه القصة لأحداث شخصية حدثت معي شخصياً أولها.. أنه وفي العام 1968 كنت قد اشتريت لوري.. بدفورد صنع انجلترا.. من وكيل الشركة هنا في الخرطوم.. بملبغ ألفين وأربعمائة جنيه سوداني.. لا تدهشوا.. ولا تعجبوا.. فقد كان ذلك أوان «العز» والترف الذي ذرته الرياح وتبددت أيامه كما الدخان ..

المهم .. وبعد أربعة أو ستة أشهر لا أذكر فقد وصلني خطاب.. من الشركة يبلغني بأن المصنع الانجليزي.. قد أفادهم.. بخطاب.. به من الاعتذار.. ما يخجل.. حتى ذاك الذي لا يخجل... معتذراً المصنع بأن هناك خطأ في تكلفة التصنيع وأن الثمن الحقيقي للوري .. هو فقط .. 2370 جنيهاً.. وعليه.. ترجو إدارة المصنع في الاتصال.. بالشركة حتى استرد منها ثلاثين جنيهاً.

سعدت حد الطرب.. ليس لذاك الفرق لصالحي.. ولا لثلاثين جنيهاً هبطت فجأة في «جيبي» كانت سعادتي.. لتلك الروح والأخلاق العالية والأمانة النادرة.. والإنسانية الشاسعة.. والدقة المتناهية.. التي يتمتع بها المواطن البريطاني..

وحزنت حد البكاء والغضب.. وأنا انظر حولي.. لأقيس وأقارن.. وكيف.. أن السواد الأعظم من بني وطني.. ومن جماهير شعبي.. الذين يعملون بالتجارة.. والتعامل.. المباشر مع بني وطنهم.. كيف أنهم.. يجافون.. تعاليم دينهم.. الذي يحث على الأمانة والصدق.. وكيف يحرم.. أكل أموال الناس بالباطل..

وحادثة أخرى.. كنت أنا بالأسف كله .. بطلها الأوحد.. وكان ذلك .. في العام 1978م وأيضاً كان ذلك في أيام العز.. بل الترف.. والثراء العريض.. عندما كانت زيارة لندن بالنسبة لي.. تماماً مثل زيارة أي مدينة داخل السودان. فقد كنت دائم التردد على لندن.. المهم كنت أقيم في منطقة «بادنجتون» .. استقل يومياً قطار الأنفاق.. من تلك المحطة.. ويومياً.. كنت أمر على «كشك» سيدة انجليزية عجوز.. أثرثر معها .. كثيراً و«أتْونّسْ» معها.. يومياً .. ثم اشتري «لوح» شيكولاته .. بمبلغ ثمانية عشر بنساً..
كانت تلك العجوز.. «ترص» الواح الشيكولاته على «الرف» مع وضع ديباجة تعلن ثمن السلعة.. جئتها يوماً وكالعادة .. وفي أثناء «الونسة» لمحت.. أنها قد وضعت على «رف» آخر.. الواحاً من الشيكولاتة.. ولكنها تحمل ديباجة السعر وهو عشرون بنساً وهي ترقد جنباً إلى جنب.. الرف الآخر المكتوب عليه ديباجة الثمن.. ثمانية عشر بنساً..

سألت المرأة.. اليوم أرى عندك.. نوع جديد .. أجابت في اقتضاب.. نفس النوع.. واصلتُ متسائلاً . إذن وزن وحجم جديد.. أجابت نفس الوزن والحجم.. واصلت «ثقالتي» وأنا أقول.. إذن هو مصنع آخر أجابت.. نفس المصنع.. هنا سألتها: إذن لماذا والحال هكذا.. هناك ثمنان أحد الأرفف يحمل 18 بنساً.. ورف آخر يحمل 20 بنساً ؟

أجابتني.. شارحة الوضع.. قائلة.. هناك مشاكل في نيجيريا.. التي يأتي منها الكاكاو وهذا هو الثمن الجديد.. هنا سألت المرأة.. قائلاً ترى من يشتري منك بعشرين بنساً مادام أنت تبيعين نفس النوع بثمانية عشر بنساً ؟ فقالت نعم أنا أعمل ذلك.. ولكن بعد أن ينفد ذاك الذي هو بالسعر القديم.. سوف يشتري الناس بالسعر الجديد..

هنا قلت لها في غفلة وبلادة ولا مبالاة وإهمال.. لماذا لا تخلطين النوعـين معاً وتبيعين بالسعر الجديد.. أي بعشرين بنساً ؟؟

فجحظت عينا المرأة.. وبات وجهها في صفرة الموت.. ثم مالت نحوي.. وهي تهمس في فزع.. هل أنت حرامي؟؟
ولا زلت.. ومنذ ذاك التاريخ.. أسأل نفسي.

هل أنا حرامي؟؟ أم هي غشيمة.. بهيمة تلك المرأة..
طيب .. إذا كنت أنا حرامي كيف هم أولئك الذين يشترون آلاف الشوالات من الدقيق... وعندما يرتفع السعر يبيعون.. بالسعر الجديد !!

وفي أي «سَقَرْ» أو «جحيم» أو «سعير» يتقلب فيها «محروقاً» من يزيد فجأة سعر «البصل» في مخازنه.. ويبيعه بالسعر الجديد رغم أنه قد اشتراه بالسعر البائس الزهيد القديم !!!

فهؤلاء .. سيواجهون.. أمراً «مُراً» في ذاك اليوم الرهيب.
ذكرتني هذه المقالة بكلام سيد قطب رحمه الله
في كتابه امريكا التي رأيت ..
رأيت في أمريكا اسلاما بلا مسلمين وفي بلادنا مسلمين بلا اسلام...