غاية التبجيل و ترك التفضيل





وجوب التفضيل بين الصحابة ليس من الدين .



نقصد تفضيل أحدهم على الآخر من السابقين في الاسلام، والذين زكاهم الله في كتابه ، وإلا فقد فرّق الله بين عموم الصحابة فجعل للذين جاهدوا وأنفقوا قبل فتح مكة درجة أكبر من الذين جاءوا بعد الفتح ،
كما فرق الرسول عليه الصلاة والسلام ذاته بينهم حيث قال لخالد بن الوليد :"لا تسبوا أحدا من أصحابي"
فمن زعم مثلا ان معاوية أفضل من علي بن أبي طالب فقد خالف الكتاب والسّنة ، أو أن خالد بن الوليد أفضل من عمر بن الخطاب وعبد الرحمن بن عوف ، ففي دين القائل غفلة واساءة .
لكن نقصد وبالتحديد المفاضلة بين ابو بكر وعمر وعثمان وعلي ، رضي الله عنهم جميعا ، ونقول أن هذا ليس من العقيدة او الدين
وأن التوقف عن التفضيل هو الصحيح ، والسلامة حين يقوم الناس لرب العالمين .
كما سيأتي بعد طرح الحديث في التفضيل وحقيقته ومذاهبه وأقوال العلماء والائمة :


التفضيل في مذهب أهل السنة :

قال الامام أحمد في أصول السنة : " وخير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر الصديق ثم عمر بن الخطاب ثم عثمان بن عفان ، نقدم هؤلاء الثلاثة كما قدمهم أصحاب رسول الله لم يختلفوا في ذلك ثم بعد هؤلاء الثلاثة أصحاب الشورى الخمسة على بن أبي طالب وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد" .
تعليق : الخلاف بين الصحابة بعد موت النبي وأصحاب الشورى معروف ومشهور .


التفضيل في مذهب الشيعة :

يرون أن علي بن أبي طالب كان الأحق بالخلافة من أبي بكر ويرون ان علي هو الامام .


سبّ الصحابة :

وفي مقابل هذا التفضيل من الطرفين ، فإن أهل الشيعة يسبون أبا بكر وعمر ، وبعضهم يقول بارتداد الصحابة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم ويستثنون منهم ثلاثة فقط .
كما كان معاوية بن أبي سفيان وبني امية يسبون علي بن أبي طالب والعلويين،
أخرج مسلم في صحيحه ورواه الترمذي وصححه :
عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه، قال: أمر معاوية بن أبي سفيان سعدا فقال: ما منعك أن تسب أبا التراب؟
فقال: أما ما ذكرت ثلاثا قالهن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فلن أسبه، لأن تكون لي واحدة منهن أحب إلي من حمر النعم،
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له، خلفه في بعض مغازيه،
فقال له علي: يا رسول الله خلفتني مع النساء والصبيان؟
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبوة بعدي "
وسمعته يقول يوم خيبر : " لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله»
قال فتطاولنا لها.
فقال: «ادعوا لي عليا» فأتي به أرمد، فبصق في عينه ودفع الراية إليه، ففتح الله عليه،
ولما نزلت هذه الآية: {فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم}، دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا وفاطمة وحسنا وحسينا فقال: «اللهم هؤلاء أهلي».


التفضيل أم الخيرية :

قال الله في بني اسرائيل (يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ )
فلا يراد هنا التفضيل، الخيرية لأن الله تعالى قال لأمة محمد صلى الله عليه وسلم (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ )
وفي الآيتين بيان الفرق بين التفضيل وبين الخيرية ، فالتفضيل يكون غالبا في التمييز بالنعم ويكون على سبيل البلاء ، أيشكر أم يكفر ؟
لكن الخيرية تعني منزلة وتزكية العبد عند الله ، ولا يعلمها سوى الله حيث يقول (فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى ) النجم .


وبني اسرائيل أكثر العالمين تفضيلا،ففيهم الأنبياء والملوك فكان فيهم داود وسليمان وملكهم أعظم ملك على الأرض ،وموسى وعيسى ، ومعجزاتهما لا يضارعها معجزات :عصا موسى - واحياء عيسى للموتى وخلق الطير من الطين .
اذن التفضيل لا يعني الخيرية بالضرورة والدليل قوله تعالى (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَامُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ) الأعراف 139


انظر الى من فضلهم الله كيف يسألون نبيهم أن يعبدوا الأصنام ؟


اذن فالذي يفضل عبد على عبد ، أو صحابي على آخر يقصد أن هذا خير من ذاك ، لكن هذا لا يعلم الا بوحي قال الله تعالى قال (فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى ) .


النهي عن التفضيل بين الأنبياء :

هو منهي بدليل الأحاديث الصحيحة الثابتة في النهي عن المفاضلة بين الأنبياء :
قال صلى الله عليه وسلم ( لا تفضلوا بين أنبياء الله ) .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: استب رجلان رجل من المسلمين ورجل من اليهود، قال المسلم: والذي اصطفى محمدا على العالمين، فقال اليهودي: والذي اصطفى موسى على العالمين، فرفع المسلم يده عند ذلك، فلطم وجه اليهودي، فذهب اليهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبره بما كان من أمره وأمر المسلم، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم المسلم، فسأله عن ذلك، فأخبره،
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تخيروني على موسى)
حديث متفق عليه .
واخرج البخاري في صحيحه عن ابن عباس و ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " لا يقولن أحدكم: إني خير من يونس بن متى "
وعلّة قول الرسول وسياق الحادثة فيها نهي لئلا تقع الخصومة بين الناس.
فالأولى أن ينهى عن التفضيل بين من دون الأنبياء وهم الصحابة .




التفضيل بين الصحابة ليس من مباحث الاعتقاد :

ذكر صاحب كتاب "غاية التبجيل وترك القطع في التفضيل " في الفصل الأول :
في بيان أن مسألة التفضيل ليست من مباحث الاعتقاد وأنها ظنية ،
وأن الامام المالكي ابو عمر يوسف بن عبد البر قال في كتابه " الاستذكار " :
( وقد أجمع علماء المسلمين أن الله تعالى لا يسأل عباده يوم الحساب من أفضل عبادي ولا هل فلان أفضل من فلان ولا ذلك مما يسأل عنه أحد في القبر ولكن رسول الله قد مدح خصالا وحمد أوصافا من اهتدى إليها جاز الفضائل وبقدر ما فيه منها كان فضله في ظاهر أمره على من لم ينلها ومن قصر عنها لم يبلغ من الفضل منزلة من ناله هذا طريق التفضيل في الظاهر عند السلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان )
وقال صاحب غاية التبجيل : " ولم يرد نص في الوحيين يزجر من لم يقدم فلانا على فلان من الصحابة رضي الله عنهم ، أو أن تقديم فلان فيه ازراء بالآخرين أو من قدم أبا بكر فأجره كذا وكذا ، ومن قدم عليّا فثوابه كذا وكذا" .اهـ


ثناء الله تعالى في كتابه على الصحابة المهاجرين السابقين في الجملة:
قال تعالى في أصحاب الحديبية (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) سورة الفتح .
وقال في براءة (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)
فأتى بالسابقين أولا كما أوضحه في آية الحديد .


لم يفضل النبي واحداً من أصحابه على غيره بعينه :
قال ابو عمر ابن عبد البر في مقدمة كتابه " الاستيعاب في معرفة الأصحاب " :
" فضّل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ جماعة من أصحابه بفضائل خصّ كل واحد منهم بفضيلة وسمه بها، وذكره فيها،
ولم يأت عنه عليه السلام أنه فضل منهم واحدًا على صاحبه بعينه من وجه يصح،
ولكنه ذكر من فضائلهم ما يستدل به على مواضعهم ومنازلهم من الفضل والدين والعلم،


وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أحلم وأكرم معاشرة، وأعلم بمحاسن الأخلاق من أن يواجه فاضلا منهم بأن غيره أفضل منه، فيجد من ذلك في نفسه بل فضّل السابقين منهم وأهل الاختصاص به على من لم ينل منازلهم فقال لهم: لو أنفق أحدكم مثل أحد ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلا نَصِيفَهُ.


وهذا من معنى قول الله تعالى : «لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ، أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ الله الْحُسْنى» سورة الحديد : 10.
ومحال أن يستوي من قاتله رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ مع من قاتل عنه،
وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ لبعض من لم يشهد بدرًا- وقد رآه يمشي بين يدي أبي بكر- تمشي بين يدي من هو خير منك؟ ،
وهذا لأنه قد كان أعلمنا ذلك في الجملة لمن شهد بدرًا والحديبية. ولكل طبقة منهم منزلة معروفة وحال موصوفة، وسنذكر في باب كل واحد منهم ما بلغنا من ذلك إن شاء الله تعالى."


وأيضا قال أبو عمر في " الاستذكار" المجلد 5 :
" وقد شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لجماعة من أصحابه بفضائل وخصائل من الخير كثيرة أثنى بها عليهم ووصف كل واحد منهم بخصلة منها أفرده بها ولم يشرك معه غيره فيها،
ولم يأت عنه صلى الله عليه وسلم من وجه صحيح تجب الحجة بمثله أنه قال فلان أفضل من فلان، إذا كانا جميعا من أهل السوابق والفضائل وذلك من أدبه ومحاسن أخلاقه صلى الله عليه وسلم لئلا يومئ للمفضول بغيبة ويحطه في نفسه فيخرجه ويخزيه ،
ولم يكن ذلك أيضا من دينه لأنه لم يعلم من غيب أمورهم وحقائق شأنهم إلا ما أطلعه الله عليه من ذلك وكان لا يتقدم بين يدي ربه،
ولو كان ذلك من دينه لأفشاه إن علمه ومن أخذ عليه الميثاق في تعليمه وتبليغه ،
فلما لم يفعل، علّمنا أن قول القائل فلان أفضل من فلان، باطل وليس بدين ولا شريعة " .انتهى


اختلاف أهل السنّة في التفضيل :

قال الامام محي الدين النووي في شرح صحيح مسلم - كتاب فضائل الصحابة -:
قال الإمام أبو عبد الله المازري اختلف الناس في تفضيل بعض الصحابة على بعض فقالت طائفة لا نفاضل بل نمسك عن ذلك ،
وقال الجمهور بالتفضيل ، ثم اختلفوا: فقال أهل السنة أفضلهم أبو بكر الصديق ،وقال الخطابية أفضلهم عمر بن الخطاب، وقالت الراوندية أفضلهم العباس ،
وقالت الشيعة: علي ،
واتفق أهل السنة على أن أفضلهم أبو بكر ثم عمر قال جمهورهم ثم عثمان ثم علي،
وقال بعض أهل السنة من أهل الكوفة بتقديم علي على عثمان، والصحيح المشهور تقديم عثمان .....
واختلف العلماء في أن التفضيل المذكور قطعي أم لا ؟وهل هو في الظاهر والباطن أم في الظاهر خاصة ؟
وممن قال بالقطع أبو الحسن الأشعري قال وهم في الفضل على ترتيبهم في الإمامة ،
وممن قال بأنه اجتهادي ظني أبو بكر الباقلاني، وذكر بن الباقلاني اختلاف العلماء في أن التفضيل هل هو في الظاهر ام في الظاهر والباطن جميعا،
وكذلك اختلفوا في عائشة وخديجة أيتهما أفضل ؟ وفي عائشة وفاطمة رضي الله عنهم أجمعين " انتهى
وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري شرح صحيح البخاري -باب فضل أبي بكر:
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما، قال: " كنا نخير بين الناس في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فنخير أبا بكر، ثم عمر بن الخطاب، ثم عثمان بن عفان رضي الله عنهم " )
وفي الحديث تقديم عثمان بعد أبي بكر وعمر كما هو المشهور عند جمهور أهل السنة وذهب بعض السلف إلى تقديم عليّ على عثمان وممن قال به سفيان الثوري ويقال إنه رجع عنه وقال به ابن خزيمة وطائفة قبله وبعده ،
وقيل لا يفضل أحدهما على الآخر قاله مالك في المدونة ،وتبعه جماعة منهم يحيى القطان ومن المتأخرين ابن حزم،
وحديث الباب حجة للجمهور وقد طعن فيه بن عبد البر" انتهى