أسلم مصعب فعلمت به أمه وكانت تحبه حبا شديدا فحاولت أن تثنيه عن الإسلام ولسان حالها ومقالها: لا تتشدد يا بني ماذا تريد من هذا الدين أتريد أن تمنع نفسك من الغناء ومن النساء ومن الشهوات إن الدين يبعد عنها ويمنعك منها وأنت تعلم أن الحياة لا تصفوا إلا بهذه الأمور، ولكن مصعبا يعلم أن ما حرمه الله عليه في الدنيا سوف يجده عند الله في الجنة أما الغناء فسوف يسمع الحور العين يغنين له في الجنة أما النساء ففي الجنة ما يروي عطش الظمآن ويطفئ سعار شهوة اللهفان من حور عين لو اطلعت إحداهن على أهل الدنيا لأضاءت لها الأرض ولافتتن أهل الدنيا بها ولخمارها خير من الدنيا وما فيها، وأما الخمر ففي الجنة، فهو من خمر لذة للشاربين لا تزيل العقل ولا تضعف البدن، فليست هناك مقارنة في الأصل بين الدنيا والآخرة ومع هذا كله فللمؤمن مغفرة من الله وله من كل الثمرات ومن كل ما تشتهي نفسه وتلذّ عينه مع خلود أبدي لا موت ولا فوت هل هذا كمن هو خالد في النار وسقوا ماءا حميما فقطع أمعاءهم؟ كلا ليست هناك مقارنة وليس هناك أي تنازل عند مصعب أمام والدته وليس لديه خيار آخر غير الإسلام فضيقت عليه ومنعته من كل نعيم كان فيه ووصل الحال إلى سجنه وهو مع هذا كله لم يزدَدْ إلا ثباتا ورسوخا ولسان حاله، ماضٍ وأعرف ما دربي وما هدفي فلن أترك ديني مهما حل بي من ضيق وشدة، ولقد عانى معاناة شديدة وهو يعذب والسبب في ذلك أنه عاش حياة الرفاهية تصوروا عندما تغير به الحال وهو الشاب الناعم الطري الذي نشأ في أحضان النعمة والترف لم يثنه شيء من ذلك عن دينه يقول عنه سعد بن أبي وقاص : (وأما مصعب بن عمير فإنه كان أترف غلام بمكة بين أبويه فيما بيننا، فلما أصابه ما أصابنا من شظف العيش، لم يقو على ذلك، فلقد رأيته وإن جلده ليتطاير عنه تطاير جلد الحية ولقد رأيته ينقطع به فما يستطيع أن يمشي، فنعرض له القسيّ ثم نحمله على عواتقنا) أ.هـ.
ومع هذا الألم صبر وصابر محتسبا الأجر عند الله سبحانه، كيف لو حدث مثل هذا لبعض شبابنا اليوم هل تظنون أنه سوف يثبت على دينه أو يتركه بالكلية؟ إننا نرى في بعض من لم يلتزم بهذا الدين يخاف من كل شيء من الوهم من الخيال، فهو يظن الهمس وعده، فينبغي للمؤمن ألا يخاف إلا من ربه وأن يعلم أن الحياة فانية وأنها دار اختبار تحتاج إلى مجاهدة ومصابرة ولنجتهد حتى ينجح الواحد منا في الدار الآخرة حيث يقول: هاؤم اقرؤوا كتابيه يفرح ويفتخر بشهادة الله له بالفوز في دار النعيم المقيم والخلود الأبدي، وما قيمة شهادات الدنيا أمام الشهادة الأخروية.
ولما اشتد أذى المشركين بمصعب وإخوته من صحابة رسول الله وضاقت بهم مكة ذرعا أذن لهم رسول الله بالهجرة إلى الحبشة وهي الهجرة الأولى وقال لهم: ((إن بأرض الحبشة ملكا لا يظلم عنده أحدا)) فهاجر مصعب الهجرة الأولى إلى الحبشة مع من هاجر وكان عددهم اثني عشر رجلا وأربع نسوة وأمروا عليهم عثمان بن مظعون.
ولكن مصعبا لم يستمر طويلا في الحبشة إذ رجع بعد هجرته بعدة أشهر عندما أشيع في الحبشة أن قريشا قد أسلمت وكان الأمر غير ذلك. وتمرّ الأيام العصيبة على المسلمين في مكة ويأتي عام الحزن وينتهي وتأتي في موسم الحج طلائع من أهل يثرب سنة إحدى عشرة من النبوة وأسلم منهم ستة نفر وواعدوا رسول الله إبلاغ رسالته الى قومهم وكان من جراء ذلك أن جاء في الموسم التالي اثنا عشر رجلا اجتمع هؤلاء مع النبي عند العقبة بمنى، فبايعوه بيعة العقبة الأولى، وبعد أن تمت البيعة وانتهى الموسم بعث النبي مع هؤلاء المبايعين أول سفير في الإسلام، ليعلّم المسلمين هناك شرائع الإسلام، ويفقههم في الدين، وليقوم بنشر الإسلام بين الذين لم يزالوا على الشرك، واختار لهذه المهمة الشاقة شابا من شباب الإسلام من السابقين الأولين ألا وهو مصعب بن عمير .
قال البراء بن عازب: أول من قدم علينا المدينة من المهاجرين مصعب بن عمير، فهو أول مهاجر إلى المدينة حرسها الله.
كان مصعب يقدر المسؤولية التي أنيطت به ويعلم أنه يجب عليه أن ينهي مهامّه خلال سنة حتى يوافي رسول الله في الموسم القادم ومعه فلول الأوس والخزرج لكي تبايعه على نصرة الإسلام فعليه إذا أن يجتهد في الدعوة وأن لا يهنأ بطعام ولا يغمض له جفن حتى يدخل الناس في دين الله أفواجا، نزل في المدينة عند رجل من أوائل من أسلم من الأنصار ويسمى أسعد بن زرارة ولعلنا لا نجد لهذا الصحابي ذكرا كثيرا في كتب السيرة والسبب في ذلك أنه توفي بعد هجرة الرسول بقليل، وأخذ مصعب وأسعد بن زرارة رضي الله عنهما يبثان الإسلام في أهل يثرب بجدّ وحماس حتى صار يدعى مصعبا بالقاري والمقري.
ولقد أثبت الشاب الصالح مصعب بن عمير أنه خير سفير للإسلام اعتمده النبي لدى أهل يثرب، فقد قام بمهمته خير قيام إذ استطاع بدماثة خلقه وصفاء نفسه أن يجمع كثيرا من أهل يثرب على الإسلام حتى أن قبيلة من أكبر قبائل يثرب وهي قبيلة بني عبد الأشهل، قد أسلمت جميعها على يده بقيادة رئيسها سعد بن معاذ .