| الألوان وعملية الهضم |

في إحدى زيارات عالم نفس وزوجته لدولة إسلامية، عرج على أحد مراكز رعاية مجهولي الأبوين وهي مؤسسات يطلق عليها في ذلك البلد اسم «مؤسسات الحرمان».

فبـُهر بما فيها من رعاية، ونظافة، ونظام، ولكنه صعق لما وجده من ضعف جسدي عند الأطفال، فطلب زيارة مطبخ الدار للاطلاع على طريقة إعداد الطعام، وبـُهر هذه المرة من سلامة معايي...ر الطعام واحتار في سبب ضعف هؤلاء الأطفال، وودع مضيفيه دون أن يجد جوابا، لأن معايير الطعام كانت متسقة مع المعايير العالمية من حيث النوع والكم. ولفتت زوجته النظر إلى أن كل ثمانية أطفال كانت مسؤولة عنهم ممرضة، ويبدو أن أنوثة زوجته دفعتها للاهتمام بالألوان فوجدت أن اللون الغالب على غرف الأطفال وحياتهم بصفة عامة هو اللون الأبيض، فالسرير أبيض والشرشف الموضوع عليه أبيض، والجدران بيضاء والسقف أبيض، حتى ملابس الممرضة كانت بيضاء ابتداء بغطاء رأسها وانتهاء بحذائها.

غادر العالم تلك الدولة مودعا كما يقال بالحفاوة التي استقبل بها، وفي الوقت نفسه حاملا حيرة لم يسعفه عقله ولا خبرته ولا ما اختزن في أعماقه من علم على إيجاد ما يبددها أو يوجد تفسيرا يريحه ويفسرها، وكان خط سيره يتطلب المرور على إحدى الدول الأفريقية الفقيرة، ولفت نظره أن المرأة في تلك الدولة تحمل صغيرها على ظهرها، بحيث تلصق ظهره بظهرها وتترك وجهه حرا يتحرك بأي اتجاه يريد وكذلك يداه ورجلاه، وتتحرك وولدها على هيئته السابقة طوال الوقت، تذهب إلى الغابة لإحضار ما تحتاجه من حطب، وتذهب لإحضار الماء، أو لجارتها أو للدكان وجلد ظهره ملتصق بجلدها، يستمد منه الحرارة، والدفء والأمان، وكان الوضع الصحي للأطفال الأفارقة جيدا بصفة عامة، وحين تابع شروط غذائهم وجدها نوعا وكما عند الحدود الدنيا، وبرزت لذهنه وبسرعة صورة الأطفال الذين لم يفارقهم إلا منذ أيام قليلة.

حاول المقارنة بين المجموعتين ولكن المقارنة لم تزد حيرته إلاّ حيرة جديدة، وحين حاول التفسير ربط بين استفادة الطفل الأفريقي من غذائه البسيط و بين ما تراه عيناه من تنوع في الألوان، فبصره يلتقط من الصور ما لا حصر له أثناء تجواله محمولا على ظهر أمه، هنا عصفور أو طائر ملون يحط على غصن فيرى ألوان ريش ذيله أو جناحه أو جسمه وقد تنوعت إلى حد مذهل، وهناك ورقة شجر مصفرّة تسقط مفارقة غصنا كان يحملها، وهنا تراب اختلط بألوان أعشاب ونباتات تنوعت ألوانها، وبالتأكيد كان يسمع أصواتا متباينة لطيور وحيوانات عديدة لا تفارق أذنيه، وهو يتحرك ثابتا على ظهر أمه، عاد بذاكرته إلى المشهد الأول الذي حيره وقارن بين حاسة البصر لدى أطفال مؤسسات الحرمان، والألوان التي كانت تستقبلها طوال النهار فلم يجد سوى اللون الأبيض لونا سائدا في ساحة رؤية أولئك الأطفال، وسرعان ما وجد علاقة بين عدم استفادة أولئك الأطفال من طعامهم وبين المثيرات البصرية المحدودة والتي لم تتعد اللون الأبيض في الجدران والسقف والأسرة وأغطيتها وغطاء رأس الممرضة وملابسها وحتى حذائها، وخرج باستنتاج مهم مفاده أن هضم الطعام مرتبط بما تراه العين، من تنوع في الألوان.

ويبدو أن عــملية الــهضم ليــست حكرا على غدد المعدة والأمعاء، بل هي عملية يشترك فيها الجسد كله، بما فيها الحواس، ولا أدل على ذلك من أننا نهضم طعامنا أسرع حين نتناوله ونحن نسمع ما يسعدنا، ونصاب بعسر الهضم حين تتخلل وجبة الطعام أحاديث منغصة ومزعجة، كما أن عملية الهضم تصبح أيسر حين تكون في وسط بستان أو على مائدة ازدانت بالورود،

ويبقى سؤال هل يمكن قراءة هذا المشهد من زوايا أخرى ؟!